الصراع على السلطة بعد قصي
وحتى لا تتفرق مكاسبه وتتناثر ؛ ترك قصي بن كلاب كل سلطاته ووظائفه وسنته الذكية ، لولده البكر عبد الدار ، دون أخيه عبد مناف ؛ ورحل إلى عالم الأسلاف ، بعد أن أسس لقريش دولتها الواحدة في مكة ، ولكن قصي ما كان يعلم أن الحقد سيتملك قلب عبد مناف على ملك عبد الدار وما حظي به من تشريف ؛ فكان أن توارث الأبناء أحقاد الأباء ، وقام أبناء العمومة يستعدون القبائل على بعضهم وتجمع بنو عبد مناف مع مؤيديهم في حلف المطيبين ؛ فرد عليهم بنو عبد الدار وحزبهم بحلف الأحلاف ، وتجمع الفريقان للقتال من أجل السيادة على مكة .
ويشرح ابن كثير الأمر في قوله : " ثم لما كبر قصي ؛ فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها ؛ من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه عبد الدار وكان أكبر ولده .. فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا : إنما خصص عبد الدار ليلحقه باخوته ؛ فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه ، وقال بنو عبد الدار هذا أمر جعله لنا قصي فنحن أحق به ، واختلفوا اختلافاً كبيراً ، وانقسمت بطون قريش فرقتين ؛ فرقة بايعت بني عبد الدار وحالفتهم ، وفرقة بايعت بني عبد مناف وحالفوهم على ذلك
ولعله واضح لمن أصاب خبرة ودربة مع كتب التراث ؛ انحياز هؤلاء الكتاب الواضح لحزب عبد مناف ، فيما وضعوه من تفاسير للأمر والتسميات ؛ كما ورد – كمثال – في شرح السيرة الحلبية لما حدث : " فلما مات عبد الدار وأخوه عبد مناف ؛ أراد بنو عبد مناف وهم هاشم وعبد شمس والمطلب ، وهؤلاء لأب وأم .. ونوفل أخوهم لأبيهم .. أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبد الدار ، وأجمعوا على المحاربة .. وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة ، ثم غمس القوم أيديهم فيها ، وتعاقدوا هم وحلفاؤهم ، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً على أنفسهم ؛ فسموا المطيبين .. فتطيب منها بنو زهرة وبنو أسد بن عبد العزي ، وبنو تميم بن مرة ، وبنو الحارث بن فهر ، فالمطيبون من قريش خمس قبائل ، وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم ، وهم بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب ، على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً ، فسموا الأحلاف لتحالفهم بعد أن أخرجوا جفنة مملوءة دماً ، من دم جزور نحروها .. وصاروا يضعون أيديهم فيها ويلعقونها فسموا لعقة الدم
وكان واضحاً أنه برغم هذا الاصطراع ؛ أن المصلحة الاقتصادية العامة فرضت نفسها على جميع الأطراف ؛ فكان الحرص على المصالح التجارية ، وما سبق وحققه قصي من هيبة لقريش ؛ عاملاً جوهرياً في حقن الدماء ، وانتهى الأمر بالسلام ؛ حيث تقاسم أبناء العمومة ألوية الشرف الموروث حيث نجد ( برهان الدين الحلبي ) يتابع في سيرته القول : " … ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف ، والحجابة و اللواء لبني عبد الدار ، ودار الندوة بينهم بالاشتراك ، لكن الواضح للمتعامل مع كتبنا الإخبارية أن بني عبد مناف قد علا نجمهم وفشا أمرهم ؛ إلى حد أنهم كانوا هم سفراء الأمان والإيلاف لدول العالم الكبرى حينذاك ، وهو ما لاحظه الدكتور ( أحمد شلبي ) وسجله بقوله : " وكان بنو عبد مناف الأربعة يتوجهون إلى الجهات الرئيسية الأربع التي كانت تتجه إليها قريش ، فكان هاشم يتجه إلى الشام ، وعبد شمس إلى الحبشة ، والمطلب إلى اليمن ، ونوفل ( أخوهم غير الشقيق ) إلى فارس ، وكان تجار قريش يذهبون إلى هذه البلاد في ذمة هؤلاء الأخوة الأربعة ، لا يتعرض لهو أحد بسوء
أما ابن كثير فقد أكد أن بني عبد مناف قد " صارت إليهم الرياسة ، وكان يقال أنهم المجيرون ، وذلك لأنهم أخذوا لقومهم قريش الأمان من ملوك الأقاليم ، ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم
وقد استقرت ألوية الشرف ( القيادة والسقاية والرفادة ) المنتزعة من بيت عبد الدار لبيت عبد مناف ، في يد هاشم بن عبد مناف بالتحديد دون بقية إخوته ، لذا فما أن رحل أخوه عبد شمس عن الدنيا حتى ساورت ولده أمية الأطماع في أخذ ما بيد عمه من ألوية الشرف بالقوة ، ووقف نوفل مؤقتاً على الحياد ، وكادت الحرب تقطع صلات الرحم ، وتهدر الدم الموصول ، ومرة أخرى تفادى القوم الكارثة ، فرضوا بالاحتكام إلى كاهن خزاعي ؛ فقضى الكاهن بنفي أمية بن عبد شمس عشر سنوات إلى منفى اختياري ، ولم يجد أمية بداً من الرضي بحكم ارتضاه ؛ فشد رحاله إلى بلاد الشام ليقضي بين أهلها من السنوات عشراً
وهكذا : دارت العدوات حول هاشم ؛ عداوة بني عبد الدار ، وعداوة بني عبد شمس الذي انضم إلى حزب عبد الدار ( ونوفل يقف محايداً ) : عداوة بني عبد الدار لاعتبار ما بيد هاشم من ألوية شرف هو حق خصهم به جدهم قصي ، وعداوة بني عبد شمس لاعتبار أنفسهم شركاء في التشريف الذي ناله هاشم بن عبد مناف .
وكانت السنوات العشر التي قضاها أمية بن عبد شمس في منفاه الشامي رصيداً لبيته الأموي من بعده ؛ فقد ارتبط هناك بأهلها بأواصر السنين والمصاهرة التي كانت لأبنائه ذخراً وعتاداً ؛ حيث قامت هناك دولة كبرى بعد سنين ؛ يرأسها حفيده معاوية تلك التي عرفتها الدنيا باسم الدولة الأموية ، وكان حكم الكاهن الخزاعي مدعاة وفجوة بين بيت هاشم وبيت عبد شمس وولده أمية ؛ ورثها الأبناء والحفدة ؛ حتى فيما بعد قيام الدولة الإسلامية ؛ حيث استمر الصراع ممثلاً في الأمويين ( نسبة لأمية بن عبد شمس والعباسيين ( نسبة للعباس بن عبد المطلب بن هاشم الذي ظلت بيده ألوية الشرف ؛ من سقاية ورفادة بتصريح من النبي صلى الله عليه وسلم ) ، أو بين المذهب الشيعي والمذهب السني . ورغم محاولات قريش رأب الصدع مبكراً ، بعقد حلف الفضول بين الأطراف المتنازعة ، فإن الصدع استمر يغور ويتسع – باستمرار وإصرار – بين أبناء